في تاريخ الرَهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة
تأسّست الرهبانية اللبنانيّة المارونيّة سنة 1695 نتيجةً لعمل تجديديّ رهبانيّ قام به أربعة شبّان موارنة أتَوا من حلب هم: جبرائيل حوّا وعبدالله قراعلي ويوسف البتن ولاحقًا جرمانوس فرحات. بارك البطريرك الدويهي خطوتهم ووهبهم مقرًّا في دير مرت مورا-إهدن بتاريخ 1 آب 1695. وبعد الِاختبار لبسوا الإسكيمَ الرهبانيّ من يد البطريرك الدويهي في 10/11/1695. ويعتبر هذا التاريخ البداية الرسميّة للرَهبانيّة. ثبّت البطريرك الدويهي قانونهم سنة 1700، ومن بعده الكرسيُّ الرّسولي، سنة 1732 ومن يومَها أصبحت الرهبانيّة ذات حقٍّ حبريّ.
مع المؤسّسين الأوائل للرهبانية، عامَّةً، ومع الأب العام عبدالله قراعلي، خاصّةً، رُسِمَت الخطوط العريضة لمسار الرَهبانيّة: عمل وصلاة ورسالة (إنطلاقًا من الدير وعودةً إليه). وأعقب هذه الاِنطلاقةَ إزدهارٌ وٱنتشارٌ ونموّ في الدعوات والأديار. ما إن توارى وجه المؤسّسين حتّى نشب خلاف في الرَهبانيّة أدّى الى شطرِها شطرين سنة 1770: الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة أو (البلديّة) والرهبانيّة المارونيّة الحلبيّة، الّتي دعيت فيما بعد بـِ (المريميّة).
بعد القِسمة وفي ظلّ الإمارة الشهابيّة عرفت الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة عصرًا ذهبيًا ٱمتَدّ من بداية عهد الأمير يوسف شهاب أي سنة 1770 حتّى نهاية عهد الأب العام إغناطيوس بليبل سنة 1832. لكن وبعد سقوط الإمارة الشهابيّة سنة 1841 وتفجُّر الفتن الطائفيّة في الأعوام: 1841 و 1845 و1860، عانت الرهبانيّة آلامًا مبرّحة بسبب تلك الأزمات، فٱستُشهِدَ 36 راهبًا من أبنائها، وتكبّدت خسائر فادحة في ممتلكاتها وأديارها.
في الحرب العالمية الأولى، وبسبب السياسة العثمانية بشكل أساس، هلك عشرات الآلاف من اللبنانيين جوعًا وفقرًا ومرضًا... فوقفت الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة كما سائر الرهبانيّات، الى جانب البطريركيّة المارونيّة، تخفّف الآلام والمصائب. ورهن الأب العام إغناطيوس داغر أملاك الرهبانيّة لفرنسا، لقاء مليوني فرنك ذهبي صُرفت على إغاثة الفقراء والمحتاجين.
ومع ٱندلاع الحرب عام 1975 وٱقتلاع عشرات الآلاف من المسيحيين وتهجيرِهم من منازلهم وقراهم وأراضيهم وضَعت الرَهبانيّة إمكانيّاتِها بتصرّفِهم في سبيل مساعدتهم، وفتحت أديارها ومراكزها أمام المهجّرين والمنكوبين والمشرّدين. من ناحية أخرى وتماشيًا مع روحيّة المجمع الفاتيكاني الثاني وتوصياتِه، قامت الرهبانيّة عام 1974 بمراجعة قوانينها، وعاوَدَتِ الكرّةَ عام 2003 وعام 2012، آخذةً بعين الاعتبار مستلزمات الحياة الرهبانيّة اليوم في الكنيسة.
الموارنةُ شعب رهبانيّ وبطريركيّ
يدين الموارنة بِديمومَتِهم عَبرَ التاريخِ وحتّى اليومِ لمؤسّستَين كبيرتين طَبَعتا تاريخَهُم: ألرهبانيّةُ والبطريركيّة. وقد نشأتِ الجماعة المارونيّةُ في رَحِمِ الديرِ وترَعرَعَت في مُحيطه. لاحقًا، وعندما ٱنتقل الموارنةُ إلى جبلِ لبنان، ساروا عَلى خُطى الرهبان.
الموارنة في جبل لبنان
فالموارنةُ الذينَ نَزَحوا مِن سوريا الشِماليّة حَوالَي القَرنين السابعَ والثامنِ وَلجأوا إلى جبلِ لبنانَ، إنّما فعلوا ذلكَ رفضًا للذُلّ، وَخوفًا من فقدانِ حُرّيّتهم. هذه الحركةُ لم تكُنْ سوى موقفٍ سياسيٍّ يعبِّرُ عن رَفضِهِم للظلمِ والقهرِ الّذي أصابهم. فنشأت بينَهم وبين جبلِ لبنانَ وحدةُ هُوّيَّة ٍكانتِ الجغرافيا دليلاً عليها، بالتمسّك بالحرّيّة ورفضِ الاِنصياع لإرادَةٍ خارجيّةٍ تُلغي حرّيّتهُم ووجودَهم.
ألمدرسةُ المارونيّة في روما
في أواخرِ القرنِ السادسَ عشر (1584)، تأسَّسَتِ المدرسةُ المارونيّةُ في روما بمبادَرةٍ من البابا غريغوريوسَ الثالث عشر (1572-1585). فيها دَرَسَ العديدُ من الشبّانِ الموارنة. بعضُهم عادوا إلى جبلِ لبنان وتبوَّؤوا العَديدَ من المناصبِ الكنسيّةِ والإداريّة، وبعضهم بَقوا في أوروبا حيثُ أبدعوا في جامِعاتها ومَكتباتِها ومعاهِدِ الفكرِ والعلومِ فيها... لكنَّ رغبةَ الكرسيِّ الرسوليِّ من وراءِ تأسيسِ المدرسةِ المارونيّةِ في روما كانت تنشئَةَ الإكليروسِ المارونيِّ، حتّى يهتمَّ هذا الأخيرُ بتنشئةِ شعبِه ومجتمَعِه. هذه الحركةُ العلميّةُ الثقافيّة، هي الّتي ستجعل من الموارنةِ، رجالَ علمٍ بِٱمتياز، وهي الّتي ستؤدّي إلى ظهورِ القولِ الشائع: "عالِـم كمارونيّ" (Savant comme un Maronite). كانت هذه الحركةُ فرصةً فريدةً للموارنة، لم تُتَحْ لغيرهِم من الجماعاتِ المسيحيّة الأخرى أو من الجماعات المسلِمة في المشرق. وهذا ما أعطاهُم، أيِ الموارنة، ولعدَّةِ قرون، الفرصةَ كي يتقدَّموا عِلميًّا وثَقافيًّا عَلى غيرهم ويلعبوا دورًا بارزًا في النَهضَةِ الأدبيّةِ والفكريّةِ في المشرق.
ألتأسيس والإنطلاق
على صعيدٍ مُوازٍ، لم تكُن الحياةُ الرهبانيّة الّتي هي في أساسِ الكنيسة المارونيّة، منذ بدايتها وحتّى أواخر القرن السابع عشر، منتظِمَةً تسيرُ بموجب قوانينَ ورسومٍ محدّدة. بل كانت الأديارُ مستقلّةً يخضعُ كلٌّ منها لسلطةِ أسقف، ويعيشُ في معظمِها الرهبانُ والراهباتُ جماعةً واحدة. وكانَ ثمّةَ عُبّادٌ وزهّادٌ مشتّتون ينتظرون من يوحّد شملهم. بقي الوضعُ على حاله حتّى نشأةِ الرهبانيّة المارونيّة سنة 1695 نتيجةً لعملٍ تجديديّ رهبانيّ قامَ به أربعةُ شبّان موارنةٍ أتَوا من حلب هم: جبرائيل حوّا وعبدالله قراعلي ويوسف البتن ولاحقًا جرمانوس فرحات. معهم تأسّستِ الرهبانيّة المارونيّةُ عام 1695، دُعِيَت أوّلاً بالرهبانيّة الحَلَبيّة، ثمّ أَطلقَ عليها الأبُ العامُّ عبدالله قراعلي، عام 1706، ٱسْمَ الرهبانيّةِ اللبنانيّةِ المارونيّة، الاِسمَ الّذي ما زالت تحملُه إلى اليوم، لأنّها تأسّسَت في جبلِ لبنانَ وضمّت رهبانًا من أبناءِ الجبلِ الّذي يُعتَبَرُ مهدَها وملجأَها. كان قدرُ هذه الرهبانيّة ومشروعُها تنظيمَ النهجِ الرهبانيّ الموجودِ والمتأصِّلِ في تاريخِ الكنيسة المارونيّة وهوّيّتِها. فالرَهبانيّةُ اللبنانيّةُ المارونيّةُ هي الِابنةُ البكرُ للكنيسةِ المارونيّة. إنها ٱبنَةُ الجبلِ اللبنانيّ. وقدِ ٱرتبطَت بجبَلِ لبنانَ إلى حدِّ التَماهي، ليس بالِاسمِ وَحسب بل بِالواقِعِ اليَوميّ حيث تفاعَلَ رهبانُها تلقائيًّا مع محيطِهم وبيئتِهم: في التعليمِ والتربيةِ وفي الزراعةِ والصناعةِ (الحرير...) فَٱستحقّوا مع الوقت لقب: "يا معلّمي". كذلكَ عاشت الرهبانيّة هوّيّتَها اللبنانيّةَ بالتزامٍ كامِلٍ، في المواقفِ والخياراتِ الوطنيّةِ، عند المفترقاتِ الخطيرة (سقوط الإمارة عام 1841، ومجازر 1845، وثورة الفلاّحين عام 1858، ومجازر 1860 وقيام المتصرّفيّة، والحرب العالميّة الأولى، والحرب الأهليّة في لبنان سنة 1975،...). فالرهبانُ البلديّون هم أبناءُ الجبل، أي أبناءُ الأرض الّذين اعتادوا تدجينَ الطبيعة ومجابَهةَ الأخطار. معَ المؤسّسين الأوائل للرهبانيّة بشكل عامّ ومعَ الأب عبدالله قراعلي بشكل خاصّ، رُسِمَت الخطوطُ العريضةُ لمسار الرهبانيّة: عمل وصلاة ورسالة (إنطلاقًا من الدير وَعَودًا إليه). فمنذ العام 1696، وفي ديرِ مارت مورا-إهدن، باشرتِ الرهبانيّةُ الفَتِيَّة، وبناءً على طلبِ أهالي إهدن، تعليمَ الأولاد. وقد ٱرتأى عبدالله قراعلي، أَحدُ المؤسّسين، أن يعلّمَهم في ناحيةٍ من الدير. يقول الأخيرُ في مذكّراته: "نزلَتِ الرهبانُ تُشَتّي في دير مار أليشاع، وسلّم الرئيس (العامّ) (جبرايل حوّا) دير مارت مورا إلى راهب (الراهب) أنطونيوس الشيخ ليحرسه إلى أن جاء الربيع، ودخلت سنة 1697. ثم صعد الرهبان إلى دير مارت مورا في بدء الربيع، وصعدتُ أنا أيضًا إليه، وبقيت أيضًا الصيفَ كلّه أعلّم الأولاد في الدير"[1]. إنّ حَراكَ هؤلاء الرهبانِ اليافعينَ المؤسِّسينَ الأوائلَ كان أشبهَ بالإطارِ العامّ للرهبانيّة الوليدة. ألمهمّ والأساس في حراك هؤلاءِ الرهبان هو أنّ فكرةَ "مجتمعِهم وبيئتِهم وشعبِهم" كانت واضحةً في مشروعِهم الرهبانيّ. وهنا يمكنُنا الِاستنتاجُ أنّهم كانوا مُدرِكينَ ما يحملونَ من إرثٍ تاريخيٍّ كبيرٍ ما هو إلاّ تراكُم صيرورةِ جماعتِهم. لقد أدركوا أنّهم جماعة فتيّة لكنَّ لديها مشروعًا وقضيّة... لا بل حيثيّة واستقلاليّة. لاحقًا، أَصرّوا على الأمانةِ لهذا التاريخِ ولهذهِ القضيّة ولتلكَ الاِستقلاليّة. [1] بدايات الرهبانية اللبنانية المارونية، ص. 29
تجديد الحياة الرهبانيّة
عملٌ تجديديّ رهبانيٌّ أقدَمَ عليه أربعة شبّانٍ موارنةٍ أتَوا من حلب، مَثَلوا بين يدَيِ البطريركِ المارونيِّ إسطفان الدويهيّ (1670-1704) في مقرّهِ في دير سيّدة قنّوبين. وكشفوا له سرّ دعوتِهم فباركَ البطريركُ خطوتَهم ودعَمَ مسيرتَهم ووهبَهم مقرًّا في ديرِ مرت مورا-إهدن بتاريخ 1 آب 1695. وبعدَ ثلاثةِ أشهر من الِاختبارِ ألبَسَهُمُ البطريركُ الدويهيُّ الإسكيمَ الرهبانيَّ في 10/11/1695. ويُعتبرُ هذا التاريخُ البدايةَ الرسميّةَ للرهبانيّةِ. وثبَّتَ البطريركُ الدويهيُّ قانونَهم سنة 1700، ومن بعدِه البطريركُ يعقوب عوّاد سنة 1725 ثُمَّ الكرسيُّ الرسوليُّ سنة 1732 معَ البابا كليمنضوس الثاني عشر. ومن يومِها أصبحَتِ الرهبانيّة ذاتَ حقّ حَبريّ. أعقبَ هذه الانطلاقةَ إزدهارٌ وانتشارٌ ونموٌّ في الدعواتِ والأديار. وٱنتظمَ معظمُ الرهبانِ الموارنةِ المتوحِّدينَ في سلكِها وسلّموها مقتنياتهم طوعًا. وتُحّدِثُنا روزناماتُ الأديارِ مطوّلاً وبالأرقامِ عن هذه الأملاك. وَٱنبَرت الرهبانيّةُ تجدّدُ الأديارَ المتداعِيَةِ وتُعْلي بُنيانها وتُوْفي ديونها وتؤدّي ضرائبَها وتتعهّدُ خدمةَ أبناءِ جوارها.
إنقسام الرهبانيّة
ما إن توارى وجهُ المؤسّسينَ حتى نشبَ خلافٌ في الرهبانيّة منذ سنة 1742. دامَ هذا النزاعُ قُرابةَ ربعِ قرن وأدّى الى شطرِها إلى شَطرين، سنة 1770: ألرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة أو (البلديّة) والرهبانيّة المارونيّة الحلبيّة، الّتي دعيت فيما بعد بـِالرهبانيّة المريميّة. أمّا الأسبابُ المباشِرةُ للنزاعِ فهي التبايُنُ الثقافيُّ والاجتماعيُّ والاختِلافُ عَلى التَوجّهات والخياراتِ في الأمورِ الإداريّة الأساسيّة. فابتداءً من سنة 1744 عَرفَتِ الرهبانيّةُ سُلطَتين متوازِيَتين ولم تُفلِحْ أيٌّ مِن مُحاولاتِ الصُلحِ وتَمتينِ اللُحمَة. فتكرَّس َالِانقسامُ نِهائيًّا وأقرَّه البابا كليمنضوس الرابعَ عشر ببراءةٍ رسوليّةٍ تحملُ تاريخ 19/7/1770. في هذه الفترة العصيبةِ من تاريخِ الرهبانيّةِ ورغم الِاختلافاتِ والتحزّباتِ والإنقساماتِ والهزّاتِ العنيفةِ... عرفتِ الرهبانيّةُ بعضَ التوسُّعِ والنُمُوّ.
مرحلة الاِنتشار والاِزدهار (1770 – 1832)
شهدَت هذه الحقبةُ توسّعًا وٱنتشارًا للرهبانيّة، ففيها تسلّمتِ الرهبانيّةِ عددًا كبيرًا من الأديار على إمتداد الجبل اللبنانيّ، أو شيّدت بعضَها. كما شهدت هذه الحقبةُ نشاطًا مطبعيًّا، إذْ ٱشترتِ الرهبانيّةُ مطبعةً من روما سنة 1783 وضعتَها في ديرِ مارِ موسى الحبشي- الدوّار، وطبعت فيها كُتُبَ القدّاسِ والرسائلِ والشحيمة، وتمَّ نقلُها إلى ديرِ مار أنطونيوس-قزحيّا سنة 1805. لكنّ هذا النشاطَ ٱنحصر في الِاهتمامِ بالكتبِ الطقسيّةِ الّتي يحتاج إليها الرهبانُ في صلواتِهم اليوميّة. وطُبِعَتْ الشبيّةُ والشحيمةُ وخدمةُ القدّاسِ الإلهيِّ ونوافيرُ القدّاس.
مرحلةُ التَحوّلات (1832-1913)
عام 1841 ومعَ سقوطِ الإمارةِ الشهابيّةِ وتفجُّرِ الفِتَنِ الطائفيّةِ في الأعوام: 1841 و 1845 و1860، عانَتِ الرهبانيّةُ آلامًا مبرِّحة بسببِ تلك الأزمات، فَٱستُشهِدَ 36 راهبًا من أبنائِها، وتكبّدَت خسائرَ فادحةً في ممتلكاتها، ومعظمُ أديارِها في المتنِ والشوفِ نُهِبَت ودُمّرت. عادَ الرهبانُ ولملَموا جراحَهم واستجمَعوا ذُخْرَ الحياةِ الرهبانيّةِ وأعادوا إعمارَ كلِّ ما تخرَّبَ بصبرٍ وعنادٍ وجَلَد، إيمانًا منهم برسالتِهم وشهادةً لاِحترامِ العيشِ المشتَركِ الأصيلِ في الجبل. نتيجةً للوضعِ الإقتصاديِّ المتفاقِم في لبنان، هبَّتِ الرهبانيّة إلى نجدةِ المحتاجين وكرّست قواها لعملِ الرسالة عبرَ التعليمِ في المدارسِ والخدمةِ الرعائيّة. ووقَعتْ أكبرُ الأديارِ تحتَ عجزٍ ماليّ وغَرقَت أديار أخرى في الديون. فدفعت هذه الأزمةُ بالرهبانيّةِ الى الِاعتمادِ أكثرَ على أسلوبِ الشراكة، وهو أسلوبٌ يقوم على تعاقدِ الرهبانِ مع عمّالٍ أو مع عائلاتٍ، للعمل في أرضِ الدير، على أن يتقاسموا الغلّاتِ مع الدير...
ألرهبانيّة في القرن العشرين
حصلت في القرن العشرين تغييراتٌ جذريّة في لبنان والعالم، فرضت على الرهبانيّة إلتزاماتٍ تربويّة وإجتماعيّة ووطنيّة جسيمة، كانَ لا بدّ للرهبانيّة مِن أن تضطلِع بها وتتحمّل أعباءها. فعندما نَشَبَتِ الحرب العالميّة الأولى وَهَلك عشراتُ الآلافِ من اللبنانيّين وتضوّرَ مثيلُهم جوعًا... وَقفتِ الرهبانيّةُ اللبنانيّةُ كما سائرِ الرهبانيّاتِ الى جانبِ البطريركيّةِ المارونيّة تُخفّف الآلام والمصائب. ورهنَ الأبُ العامُّ إغناطيوس داغر التنّوريّ جميعَ ممتلكاتِ الرهبانيّةِ للدولةِ الفَرنسيّة، لقاءَ مليونَي فرنك ذهبًا صُرفَت في إغاثَةِ الفقراء والمحتاجين. وتكرّرت المحنةُ إبّان الحربِ العالميّة الثانية، فقامتِ الرهبانيّة مجدّدًا بفتحِ أديارِها أمامَ اللاجئينَ والمعوِزينَ خصوصًا دير مار جرجس الناعمة.
الرهبانيّةُ اللبنانيّةُ والحربُ اللبنانيّة
ومع ٱندلاعِ الحرب عام 1975 وٱقتلاع عشرات الآلاف من المسيحيّين وتهجيرهم من منازلهم وقراهم وأراضيهم، وَضعت الرهبانيّةُ إمكانياتها بتصرّفهم في سبيلِ مساعدتهم، وفتحت أديارَها ومراكزَها أمام المهجَّرين والمنكوبين والمشرّدين وقدّمت للعددِ الكبيرِ منهم الغذاءَ واللباسَ وأسباب الراحة، وبنت لبعضهم تجمّعاتٍ سكنيّة، ووفّرت لآخرين مساكنَ جاهزة، وفتحت لأولادِهم مجالاً للتَعَلُّم مجّانًا في المدرسةِ المركزيّةِ، وسفَّرت المئاتِ إلى فرنسا للتعلّمِ أيضًا، وأعدّت مخيّماتٍ ولقاءاتٍ في مختلِف مناطق لبنان... من ناحية أخرى، وتماشيًا مع روحيّةِ المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ وتوصياتِه، قامت الرهبانيّة عام 1974 ثمَّ عام 2003 وعام 2012 بمراجعَةِ قوانينِها آخذةً بعينِ الاِعتبار مستلزماتِ الحياة الرهبانيّةِ اليومَ في الكنيسة.
قِدّيسو الرهبانيّة
إهتمّت الرهبانيّة بدعاوى قدّيسيها منذ عهد الأب العامّ إغناطيوس داغر (1913-1929). وتعتَبرُ الرهبانيّةُ قداسةَ أبنائِها خيرَ دليلٍ على عمقِ تراثِها الروحيِّ وغناه، فالقداسَةُ غايةُ المنضَوينَ في صفوفِها والضمانةُ الأكيدةُ للمستقبل. وقد تقدّمتِ الرهبانيّة منذ العام 1925 بدعوى تقديسِ الأبِ نعمة الله كسّاب الحردينيّ، والأبَ شربل مخلوف، والأختَ رفقا شبق الريّس. ولاحقًا الأخَ إسطفان نعمه اللحفديّ
ألموارَنة بحسب ٱبن القلاعي
في الختامِ عودٌ على بدء. نختم أخيرًا بالعودةِ إلى أحدِ أوائلِ كتَّابِ التاريخ المارونيّ، الراهبِ الفرنسيسكانيّ، والأسقف المارونيّ على قبرص "جبرائيل إبن القلاعي" (+1516). نجدُ في آثارِهِ المكتوبَةِ مَوقفًا يختصرُ وعيَ الموارنَةِ لهوّيّتِهِم. يقول ٱبن القلاعي: "الموارنة أمّة كاملة، شعب مختار ألجأهم الله إلى مناعة جبل، وأوكل إليهم المحافظة على الإيمان، وكرامة المسيحيّة في الشرق. ثم دعاهم إلى نبذ الخلافات والوقوف صفًّا واحدًا مقدَّمين وَشعبًا مع الكنيسة. وأوضح لهم، أنّهم لن يخلصوا من الذّلّ الّذي لحق بهم في القرنين السابقين (عهدِ المماليك)، إلاّ من طريق ثبوتِ جميعِ فئاتِ الشعب بِقيادةِ البطريرك، في طاعة روما". (إبن القلاعي اللحفدي – 1493).